تحول الفنان الإنجليزى "روان أتكنسون Rowan Atkinson" (1955 - ) إلى ظاهرة خاصة جدا في عالم الإبداع السينمائي تستحق الدراسات المتوالية بلا ملل ولا انقطاع.
فالممثل والمخرج والمؤلف والمنتج أتكنسون يحمل مسيرة تلفزيونية وسينمائية عامرة بدأت عام 1979 من الصفر، فالكفاح له احترامه، وهذا الرجل فنان مكافح، يملك الدأب والصبر والحماس والذكاء لاتخاذ ثلاث خطوات هامة، أولا قراءته الواقعية لقدراته الشخصية من ناحية المبدأ، ثانيا قدرته على تطويرها بالخبرة والعلم وقوة الملاحظة وبعد النظر، ثالثا شجاعته الواضحة وطموحه القوي، وإصراره العزيز على خدمة نفسه بنفسه بتوظيف موهبته في التأليف، حتى لو اقتصر الأمر على مجرد رسم الشخصيات وترك مهمة كتابة السيناريو لغيره، مثل رفيق دربه الشهير ريتشارد كيرتس.
كثير من الفنانين يقدرون جدا الجائزة القادمة من الجمهور بصفة خاصة، فالمتلقي يعرف الفنان كفرد خلف الشاشة، بينما يعرف الفنان المتلقي كصيغة جمعية خلف الشاشة، والفنان الناجح يحرص على ترك ميراث فخم ضخم على جناح بصمة تميزه وتخلده عند الجمهور، ففي حياته لحظات، وبعد رحيله سنوات.
وعلى قلة جوائز روان أتكنسون رشحه الجمهور لجائزة أفضل ممثل عن فيلمه "جوني الإنجليزى Jonny English" 2003 في منافسات الأفلام الأوروبية، بدون مصلحة ولا انتظار مقابل على الإطلاق، هذه الأسباب العادلة القادمة من الجمهور الباحث عن متعة تمنح إنسانيته علامة تنير أرشيف ذكرياته الدائمة، هي التي يستوعبها روان أتكنسون جيدا ليداعب مشاهديه ويبهرهم بشخصية الرجل الإنجليزى "مستر بين Mr. Bean" في التليفزيون ثم السينما بفيلميه "مستر بين" 1997، و"إجازة مستر بين Mr. Bean's Holiday" 2007؛ والاثنان حققا إيرادات هائلة.
مغامرة خطرة أن يُلقى الفيلم كله على عاتق شخصية واحدة، ومغامرة أخطر أن تتصدر هذه الشخصية اسم الفيلم، فتتحمل المسؤولية كاملة أيا كانت، فالثقة بالنفس، والثبات على المبدأ، والرغبة في الارتقاء لمكانة أكبر لهم ثمن غال.
وبعيدا عن كل أعمال روان أتكنسون سنتوقف بالتحليل الموجز جدا أمام الخطوط العامة لشخصية المواطن الإنجليزى "مستر بين"، المتربعة على عرش ذاكرة المتفرج بكل ارتياح وإحساس بدفء الوطن، بناء على التقبل والتعايش التام مع الأداء الكاريكاتيرى المبالغ فيه للممثل، المختلط بمزيج من كوميديا الفودفيل وكوميديا الفارس بنسب معتدلة، تخاطب الكثير من العقليات والأذواق في المواقف المختلفة، وأحيانا في نفس الموقف.
ربما يكون الممثلان الشهيران إيدي ميرفي وجيم كاري ينتهجان المبالغة في الأداء أيضا، لكن هذا من ناحية تشابه الأسماء والعناوين، مع اختلاف التفاصيل والبناء العام والقدرات الشخصية المتباينة عند ثلاثي الفنانين.
من أهم معطيات شخصية "مستر بين" أنها تحمل تركيبة داخلية سينمائية جميلة سهلة جدا وصعبة جدا، فنحن من الناحية الاجتماعية لا نعرف عنه شيئا، ومن الناحية الاقتصادية نجده أغلب الظن مفلسا بجدارة، لكنه فى المقابل يحمل جيوبا ممتلئة عن آخرها بفيضانات هائلة من المشاعر الإنسانية النبيلة، ورقة القلب المتناهية في جوهره الصادق الحقيقي.
فالسيد بين رجل طيب ربما يكون القدر استعجل طفولته لتكبر قبل الأوان، وربما يكون استعجل سذاجته لتطرح سلسلة مشاكل لم ولن تنتهي قبل الأوان، لكننا في النهاية لا نملك إلا أن نتعامل معه وليس غيره، إما عن سماحة وتكبير عقل، اعترافا منا بطيبة قلبه وشقاوته الصبيانية التي تسبقه فى كل مكان، وإما بالإكراه -والأمر لله- اعترافا منا بضيق أفق تفكيره بطبيعته ومشاكله التي تشرف أي مكان يضع قدمه فيه لتمحو معالمه.
فهو أطول طفل في العالم يحمل ملامح جادة، يرتدي بدلة كلاسيكية كاملة كتقليد إنجليزي معروف، ولا يجرؤ أي عاقل أو مُنجِّم أو أفضل عشرة كتاب سيناريو في العالم على توقع ما يفكر فيه "مستر بين"، ولا حتى؛ أين سينظر؟ ومتى سيلتفت؟
بهذا نكون قد وصلنا إلى أهم الأسس الناجحة التي يقوم عليها نجاح هذه الشخصية عند كل أفراد العائلة بمختلف المرجعيات والتوجهات، وهي امتلاكه روحا إنسانية شمولية لها لون واحد، وعقلية متحررة تحركه لا لون لها أساسا توجهه لاقتراح حلول عبقرية، لا نجدها ولا نتقبلها، بلا منطق منضبط إلا في أفلام الرسوم المتحركة وحلولها المبتكرة.
فكل مهمة البطل الإنجليزى إيقاظ خيالنا الواسع ودغدغة فطرتنا الأصلية فيما قبل مرحلة التلوث، لنتفاعل ونضحك معه بمنتهى الأمان والثقة والتعاطف، حاملين كل مسوغات الغفران الجاهز المسبق لأفعاله الجبارة، تماما مثلما نتفاعل ونصدق الفأر الصغير في مغامرات "توم وجيرى" الشهيرة، وهو يستخدم المظلة كتجويف ومخبأ له من القط الكبير، ثم يقلبها لتصبح يدها الطويلة عامودا ينزلق فوقه ليهرب، وهكذا إلى الأبد.
برغم القدرات الهائلة لروان أتكنسون فإنه لم يخجل من تلقي دروس متقدمة في فن البانتوميم؛ أي التمثيل الصامت، ليقوم ببطولة فيلم "إجازة مستر بين" تقريبا بلا كلمة واحدة، مع أنه خبير أصيل في هذا المجال، ويختزن قدرات مخيفة على التحكم في عضلات وجهه وكل أنحاء جسده، مثل خامة الصلصال، ليشكل منها ما يشاء من أيقونات وتكوينات وعلامات، لم يكتف أتكنسون بالتدريبات الفنية البحتة على يد المحترفين، بل راح يراقب الخطب السياسية لمارجريت تاتشر على سبيل المثال وأخضعها لدراسات متأنية، وبدأ يدون متى تسترسل ومتى تقف وكيف تضغط على كلمة بعينها ولماذا، وكل ما نتخيله من تفاصيل فنون التقطيع والإلقاء بقوة ملاحظة متناهية، فالطفل الذكي هو من يحتفظ بمواصفات نبوغه وضمانات حب الناس له إلى الأبد، ليظل البطل المرغوب المحبوب فى عيون مختلف الأجيال مهما فعل من مقالب ساخنة!